كريم الحنكي... كم الموت الآن !
ترك رحيل كريم الحنكي حزناً عميقاً في نفسي مرتين ..
مرة لهذا الموت الذي يجتاحنا واحداً بعد الآخر بهذه الصورة الفاجعة والمفاجئة، وكان رحيله بذبحة صدرية ظهر الجمعة 8 أغسطس 2025م أبلغ صور هذه الفواجع التي أسلمتني إلى مزيد الأسى والألم،ولم يكونا ينقصاني، فقد كنت خلال الفترة الأخيرة في حال غم شبه دائم على رحيل العديد من أحبة الروح وأصدقاء العمر الذين فجعت بموتهم واحداً بعد الآخر خلال زمن قصير !
والمرة الثانية أنني لم أعمق صلتي بإبداع هذا الشاعر الفذ، بالرغم من أنني كنت قريب الصلة به وبأسرته، وجميعهم من المبدعين في مجالات لها علاقة بالثقافة والإبداع. فشقيقه احمد سالم الحنكي كاتب وإعلامي وصاحب تجربة رائدة في تأسيس دار الهمداني للطباعة والنشر في عدن،وساهم في نشرالكتاب.وشقيقه السفير عبدالله الحنكي ،صاحب قلم ورأي حر . وشقيقه عبد الناصر فنان ونحَّات، لكن عبدالكريم وهو أصغرهم أو كريم الحنكي كما سيعرف لاحقاً ، هو الشاعر الوحيد في هذه الأسرة المثقفة العاشقة للقراءة والكتاب، ووالدهم سالم الحنكي الذي غرس فيهم هذا الحب كان حفاظاً للشعر يحبه ويرويه ، ومحارب في معارك العرب ....
كريم الحنكي قامة أدبية سامقة، وشاعر يمزج بين الرؤية الشعرية العميقة و الحس الإنساني الرفيع، كما قال عنه في رثائه كرار المراني، وإضافة بكل معنى الكلمة إلى الشعر الجديد. و يكفي هنا أن استشهد بماكتبه عنه الشاعر العربي سعدي يوسف :" كريم الحنكي هو الأطروحة الصعبة في النص الشعري الجديد." . وتكفي كريم هذه الشهادة من شاعر كبير، كانت بداياته الأولى في عدن على يديه، ورأى صعوده شاعراً مجدداً نال المرتبة الأولى في قصائد حكمها سعدي بباريس في الثمانينات من القرن العشرين الماضي، وكريم له وداعة وابتسامة طفل وصلابة وشجاعة مثقف صاحب موقف لايتوانى في التضحية بروحه من أجل الوطن والحرية ...
أقول انني لم أدرس أو أتعمق في دراسة تجربة الشاعر كريم الحنكي، ولا أظن أن أحداً درسها بالعمق الكافي، بحيث أزعم أنني أستطيع أن أفيه حقه، ولعل السبب على الأقل فيما يتعلق بي، بأنني وإن كنت قارئاً وذواقة للشعر ،لكني لست ناقداً متخصصاً فيه. وهناك أسباب موضوعية منها ان عدد النقاد المتخصصين في اليمن قليل والشعراء كثيرون !! توجد عندنا حركة شعرية مزدهرة تواكب الحداثة الشعرية لكن بالمقابل لاتوجد حركة نقدية توازيها . ويسري هذا على السرد أيضاً، والعديد من فنون الإبداع الأخرى !!
وسبب آخر ؛ هو أن عدد دور النشرفي بلادنا قليل جداً، وبالتالي لايجدالمبدعون مجالاً لنشر مؤلفاتهم فتنام في الأدراج مخطوطة لامنشورة، والتجربة الرائدة التي بدأها شقيقه أحمد سالم الحنكي بتأسيس دار الهمداني في عدن في الثمانينيات وئدت باستشهاده في يناير 1986م ولم يكتب لها الإستمرار ولم تتكرر. وسبب ثالث؛ وهو أن كريم الحنكي ليس شاعراً فقط، بل متعدد المواهب. كان باحثاً علمياً،ومعلماً،ومترجماً،وناقداً. وهذه الاهتمامات المتعددة ربما لم تعطه الوقت الكافي للإشتغال على تجربته الشعرية وحدها، بمايكفي، فالشعر لايطعم عيشاً في اليمن !!
ومع كل هذه الإنشغالات، صنع كريم الحنكي مكانة لنفسه من بين شعراء الصف الأول، "لم يكن الحنكي شاعرًا فحسب، بل كان صانعًا للجمال وناقلًا لروحه عبر الحروف. أهدى المكتبةديوانه البارز "كم الطعنة الآن؟"(1995)، وحرّر كنزًا أدبيًا في كتاب "سفينة القلائد الحكمية والفرائد الحمينية" (2005)، وكتب دراسات نقدية بعمق ورصانة، كما فتح نافذة على الشعر العالمي بترجمته "قصائد عشق يابانية" المنشورة في مجلة نزوى العُمانية "كماجاء في بيان النعي الصادر عن اتحاد ادباء وكتاب اليمن - عدن . وفوق هذا وذاك كان سكرتيراً لتحرير مجلة مركزالظفاري البحثية،ويقدم برنامج( خواطر الوجدان) الثقافي عبر أثير إذاعة عدن . وكل هذا مشتتٌ للجهد، ومرهقٌ لمبدع مهموم بهم الوطن وحريةالانسان وقضاياهما الكبرى خاصة في العقود الأخيرة التي لم تشهد إستقراراً، وغلبت عليها الحروب والأزمات والكوارث الكبرى وضيق مساحة الحرية..
وسبل العيش. حمل قلمه بصدق في خدمة قضيته ووطنه، ودفع ثمن الكلمة الحرة إعتقالًا وتضييقًا، دون أن يلين أو يحيد عن مواقفه النبيلة".
لقائي الأخير بكريم الحنكي كان في القاهرة قبل عدة سنوات، عندما جمعنا الصديق الشاعر عبدالله باكدادة وكيل وزارة الثقافة"رحمه الله" مع ثلة من المبدعين في الشعر والسرد والموسيقى من الذين صادف وجودهم في مصر حينها في منزل الصديق الرئيس علي ناصرمحمد في سهرة ثقافية. وكان من بين الحضور الشاعر الكبير عبدالصفي هادي والموسيقار نديم المضي وعازف العود المبدع هيثم الحضرمي وآخرين.
أذكر ان كريم ألقى ليلتها قصيدة ذات نفس تأملي عميق عن قصة "حب" زليخة والصديق يوسف انتزع بها إعجاب الحضور. وقد أشدت في تعقيب مقتضب مما سمح به الوقت بالقصيدة، والزاوية التي تناول منها قصة الحب تلك ، حيث أنصف إمرأة العزيز ، وقد جرت العادة أن يضعها الجميع في موقف المذنب و الاتهام والاستنكار ! وقد أسعد كريم أنني لاحظت هذه الرؤية المختلفة التي عالج بها قصة العشق تلك في قصيدته .
و في كواليس السهرة عرضت على كريم ترجمة بعض قصصي القصيرة جداً إلى اللغة الإنجليزية لما اعرفه عنه من ضلوع في الترجمة الإبداعية حيث ترجم نصوصاً من الانجليزية إلى العربية، وهو من بين قلة من الشعراء المتفوقين في الترجمة الابداعية ،من ابرزهم عبدالله فاضل فارع، وشهاب محمد غانم، وشوقي شفيق، وسعيد محمد دحي ، ونجيب سعيد باوزير .
أبدى كريم اهتمامابالفكرة، لكن المشروع لم ير النور بعد مغادرة كريم للقاهرة، ولم نلتق بعدها. كما عاد كريم بخيبة أمل بسبب عدم الحصول على تمويل لطبع ديوان جديد له في القاهرة بعد ديوانه الوحيد ( كم الطعنة الآن ) الصادر عام 1995م، وهذه إحدى الاشكاليات التي يواجهها المبدعون في اليمن إلا من رحم ربي، حيث الثروة بيد لصوص الوطن وناهبي خيراته ممن لاعلاقة لهم بالثقافة والإبداع !!
رحم الله الصديق والشاعر المبدع كريم الحنكي فقد فقد الوطن والشعر وفقدت الثقافة برحيله علماً وشاعراً ترك بصمة واثراً
وفقدتُ صديقاً وأخاً برحيله المفاجيء والفاجع .
لا نقول ياكريم انه رحيل مبكر ، وإن كان فاجعاً وبدون إنذار مسبق ، أو فسحة لوداع ، فحياة المبدع ليست في عدد السنين التي يعيشها بل في الأثر الذي يخلفه من بعده.فكثير من المبدعين ماتوا في سن مبكرة لكن أثرهم لازال باق فينا فيما تركوه واثروا به الساحة الثقافية والأدبية، بدءًا بالملك الضليل امرؤ القيس ، وطرفة بن العبد، وابو القاسم الشابي، وبدر شاكر السياب، ورياض الصالح حسين ، وأمل دنقل، وبوشكين ، ولوركا، ونوغلاي جوجل، وجون كيتس ، ومع ذلك فان نبوغهم الفني أبقاهم في الذاكرة الشعرية والثقافية برغم عمرهم القصير ، لأن حياتهم كانت عظيمة وإبداعهم أعظم.
ولا نظنك إلا واحداً من هؤلاء الذين لايكون وجودهم في الوجود زبداعابرا، بل مما يبقى ويمكث في الأرض يزهر ويثمر وينفع الناس .
في الأخير أدعو اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين إلى الإهتمام والعناية بانتاج الفقيد كريم الحنكي الشعري والنقدي والبحثي وجمعه ونشره .
وعزائي لأخي وصديقي السفير عبدالله الحنكي في مصابه ومصابنا جميعاً... وله ولبقية أسرة الحنكي الكريمة الصبر والسلوان..
لكريم الرحمة من الله والرضوان ولروحه السلام.