بين حديقة الأزهر وبستان الكمسري
لخمسة قرون كانت هذه البقعة مكب قمامة القاهرة القديمة لكنها الآن حديقة جميلة من أجمل حدائق مصر،والعالم
،ومنتزهاً رائعاً للمصريين وزوارالقاهرة يقضون فيه بعض أجمل أوقاتهم .
قررنا وأسرتي أن نقضي نهاية الأسبوع في حديقة الأزهر، وأخذنا نجري الإستعدادات لقضاء يوم جميل . ليست هذه زيارتنا الأولى فنحن دائمو التردد عليهاكلما سنحت لنا الفرصة، منذ أن استقر بنا المقام في مدينة القاهرة، ونحرص أن تكون من أفضل الأماكن التي ننصح ونأخذ إليها أقرباءنا ممن يزورون مصركما فعلنا هذه المرة أيضاً.
شاهدت الكثيرحول العالم مما أبدعه إنسان هذه الأرض الطيبة ، من أماكن التنزه من حديقة "جوركي" الثقافية وحديقة "فدنخا" في موسكو ، إلى حديقة الحيوان والحديقة المائيةفي برلين ، إلى حديقه الأورمان و حديقة الحيوان في الجيزة، إلى حديقة الأزهر في القاهرة.
الرابعة عصراً تقريباً، وصلنا الحديقة التي صنفت ضمن أجمل ستين منتزهاً مميزاً في العالم.كان خميساً ويوم عطلة رسمية في مصر بمناسبة الذكرى السنوية الخامسة والأربعين لتحرير سيناء، لذا كان الإقبال والزحام شديدين، آلاف العائلات من مختلف الأعمار تتدفق على الحديقة منذ التاسعة صباحاًولم يتوقف سيلهم إلاّ في العاشرة مساءا موعد إغلاق الحديقة.
منذ لحظة دخولنا أحسست بسعادة لاتقاوم تخترقني، تنفست ملء رئتي وشعرت بثقل هائل كان يملأ نفسي ينزاح عني وعدت طفلاً يعيش أجمل لحظات عمره حساسيةً وجمالا ًفي مكان يثير كل مافيه هدوء النفس ، وبهجة الروح فلاتعرف من منكما يتوغل في الآخر! وزادتها الأجواء الربيعية روعة ورعشة في الجسم إذ كنأ تحررنا من الملابس الصوفية الثقيلة التي تدثرنا بها طوال أشهر الشتاء!
بضع ساعات مستقطعة، تحررت خلالها من ضغوط الحياة المتكررة،التي اثقلت روحي ولم يعد. يتحملها الجسد ،ومن صخب المدينة التي يسكنها نحو 11 مليون نسمة ، وتجري في طرقاتها أكثر من ثلاثة ونصف مليون سيارة ، من أصل عشرة مليون عربة مرخصة تجري في طرقات مصر..!! لحظات من الهدوء والتأمل تمنيت فعلاً الا تنتهي بين الأشجارالمورقة،والمساحات الخضراء،والزهور الزاهية وخرير مياه النافورات وزرقة البحيرةوالأجواء الربيعية التي تكسر موجة الحر غير المسبوق في الأيام الأخيرة بين انقضاء الشتاء وبدء الربيع .لم يكن يكسر هدوء المكان غير جريان الأطفال لكنه يزيده حياةومتعة وحميمية بأصواتهم الفرحة وهم يعيشون لحظات سعادتهم التي لاحدود لسلطانها ..لحظتها فقط ظهر ذلك الطفل الذي لم يغادرني قط ويعيش معي منذ خمس وسبعين سنة ويزداد تعلقاً والتصاقاًبي كلما تقدمت في العمر، أوأنني الذي اتعلق بأهدابه ، أهدابي. وفي مثل هذه اللحظات يكون ، أكون أكثر حضوراً للتعبير عني ..فرأيتني أجري وسط غابات النخيل ورياض بساتين وادي عمر "الديس الشرقية"، الصيق والعارة ، وثوبان وصنعة
وصويبر والمعايين.. لحظات المتعة وسط الطبيعة المدهشة.. .هناك عشت طفولتي وعاش الطفل الذي يأبى أن يغادرني ،الدهشة الأولى وهو يكتشف اسرار
اللغة والصور والكتابة وروعة الإحساس بالجمال.
ورأيتني ذلك الطفل الصغير الذي تأسرني شقاوته وجرأته يهرب إلى الغابات الكثيفةكلما غضب من أبيه ، أومن عنف خاله غير آبه من وجود حيوانات متوحشة في الجوار حتى يجدوه بعد بحث مضن متخفياًوسط كثافةأحراش تلك الغابات الافريقيةالتي لانهاية لها حيث الطبيعة البكر التي لم تمسها أيدي بشر !! أو يلوذ بمزرعة جديه وحكاياتهما التي لاتنتهي ، هناك ذاق سحر الحكايات، وشعر أن هناك شيئاً مبهماً يتوغل فيه. وهناك تنبأت له جدته ( ابولو ) انه سيكتب الحكاية ذات يوم !وكان يظن ان تلك النبؤة لن تتحقق ، وربما لم يفكر فيها حتى بعد موت جدته
لكن روحها الافريقية العظيمةكانت تعود في صورة أكثر وضوحاً وحياةً وتقول له : "انا لا اكذب ياولد ! ستكتب الحكاية! وذات يوم وجد نفسه يكتبها كأنه قدره المخبأ أوالمكتوب !
ورأيتني في بستان الكمسري في الشيخ عثمان الذي أعرفه كما أعرف نفسي طفلاً لكثرماترددت عليه مع أبي وأمي واشقائي،وأصدقائي من زمن الطفولة الجميل . وكان الكمسري وحديقة عبدالمجيد للحيوان أجمل منتزهين في عدن يلوذ بهما وسكان المدينة واحيائها لقضاءالوقت خلال إجازة الأسبوع وفي الأعياد. إلى جانب شو اطيء البحر منحة الإله العظيم لعدن..
قد لايكون بستان الكمسري بنفس جمال حديقة الأزهر، ومساحته متواضعة قياساً بمساحة الأولى، لكنه مرتبط بذاكرة الطفل الذي كنته ومازلته، بأجمل سنوات العمر التي قضاها في هذه المدينة الرائعة عدن التي شكلت إنسانيته العميقة، هي واحدة من المدن التي لايغادره حبها مهما شرق أوغرب ، إنها مثل الحب الأول، والقبلة الأولى، وضحكة الطفل التي تلونت بلون الزرقة.. البحر والسماء.
جلست كثيراً، وقفت قليلاً، ومشيت في الممشى المخصص للمشاة، و أكلت كثيراًمع الأسرة، كاسراً تعليمات الطبيب بالإمتناع عن كثير من الأطعمة، وأشرفت من تل مرتفع على القاهرة القديمة، وقلعة محمد علي التاريخية، وشعرت بالفضاء واسعاً وأنا اتأمل روعة مايمكن ان يصنعه الإنسان المصري الذي حوّل مكب زبالة إلى جنة على الأرض، كانت كافية بأن تمنحني ، تمنحنا كل ذلك القدر من الراحة والبهاء.